وجـــهـــة نظــــــــــر
بقلم أ.د / إدريس بولكعيبات
قصة فتح التكوين في الاعلام والاتصال بجامعة منتوري 2 عام 1995 بلغت مغامرتي في الصحافة أقصاها ، حيث توليت مديرية تحرير جريدة " النصر " . كانت كل الظروف معادية و المعنويات في الحضيض . الصحافة دخلت مرحلة الجزر بعد سنوات من المد ، هامش الحرية ضاق بسبب الارهاب الذي ابتليت به البلاد كان أشد فتكا بالعباد من ذلك الطاعون الأسود الذي فتك بأوروبا قبل الثورة الصناعية . تولي مسؤولية في الصحافة في تلك المرحلة كان مجازفة حقيقية ، فالصحافيون كانوا هدفا معلنا على لائحة الإرهاب . و قد قتل منهم العشرات و مازلت أذكر أن إحدى الصحف السويدية كتبت حينها تقول أن أخطر مهنة في العالم أن تكون صحافيا في الجزائر و ذلك لما تعرض له الصحافيون من قتل وتشريد بينما سيطر الخوف والاكتئاب على الباقي .
في تلك المرحلة كان يوم العمل يمتد للعاشرة ليلا في أقصر الأيام . و كان " اليمين زروال " قد أصبح رئيسا للبلاد . الضائقة المالية كانت خانقة للغاية و المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تسير ضد التكفل بالمسألة الاجتماعية التي كانت دائما ورقة يشد عليها النظام منذ الاستقلال للحفاظ على مبررات الاستمرار .
فوق هضبة عين الباي ، كان معهد علم الاجتماع بجامعة منتوري قد فتح اختصاص " علم اجتماع الاتصال " لاعطاء نفس جديد للتكوين . و كان الصديق " سلاطنية بلقاسم " قد تولى إدارة المعهد و أراد ترتيب بيت ذلك المعهد العريق الذي له فضل لاينكر على الشرق الجزائري ، و بموجب إعادة هندسة الأمور تولى " عبد الحميد ديلمي " البيداغوجيا بينما تولى " حميد خروف " الدراسات العليا " .
و قد زارني " الأستاذ سلاطنية بلقاسم " في ذلك الزخم من الأحداث بمقر الجريدة و طلب مني التكفل بتدريس مواد في ذلك الاختصاص الذي كان يلقى الاقبال الشديد حتى بات المفضل لدى الطلبة .
لم يكن أبدا من اللائق رد الزميل " سلاطنية " خائبا ، فهو رجل شهم و مضياف و كريم جدا . و لعله أكرم رؤساء الجامعات الجزائرية على الاطلاق . قبلت المساهمة بشرط أن تكون كل يوم خميس و هو يوم العطلة في الصحافة في ذلك الوقت فعلت ذلك حتى لا أفرط في مهمتي و لم أطلب مقابلا ماليا أبدا . لأني اعتبرت ذلك خدمة لصديق يريد خلق مناخ جديد في المعهد الذي مر بتوترات ايديولوجية حادة وحالة من الانقسام الشديد بين الأساتذة الى درجة العداء
للحديث بقية ..... تحياتي
وجهة نظر /
أ.د / إدريس بولكعيبات
بناة الجامعات في الشرق ( 4)
في صيف عام ألفين ألقيت البذرة في جامعة منتوري لخلق قسم جديد و هو قسم علوم الاعلام و الاتصال . جاءت هذه الخطوة متأخرة جدا ؛ حيث لا أحد كان متحمسا لهذا الاختصاص خوفا على مستقبل العلوم الاجتماعية و الانسانية . كان ينظر الى هذا الاحتصاص كمنافس واعد باستقطاب الطلبة.
و كم كانت هذه النظرة قاصرة للغاية لدى أساتذة باحثين . فالعلوم لا يتم الحفاظ عليها بمحاصرة العلوم الأخرى و التضييق عليها بل بتطويرها من الداخل و ضبط برامجها بما يلبي حاجات المجتمع المتنامية . تلك هي النظرة التي كان يجب أن تكون . و بسبب سيطرة هذه الذهنيات التي أدت الى التراجع و الجمود تقهقرت جامعة قسنطينة و خطفت منها الأضواء و المبادرة جامعات حديثة الولادة هنا و هناك .
و زاد الطين بلة ، تقسيم جامعة قسنطينة الى ثلاث . كان الهدف المعلن هو إعطاء فرصة لتسيير أفضل و حتى تحافظ قسنطينة على سمعتها التاريخية ؛ حيث لم يبق من تسميتها بمدينة العلم و العلماء سوى سراب تداعبه في السادس عشر أفريل من كل عام .
و الحقيقة هناك ثلاثة بناة للجامعات في الشرق الجزائري لابد من انصافهم عند الحديث عن تطوير الجامعة الجزائرية . و هم دون مجاملة الأستاذ " عبد الحميد جكون " الذي يستحق لقب باني جامعات قسنطينة ، ففي عهده شهدت تطويرا و توسيعا غير مسبوق من حيث المباني و الاختصاصات . و يعود له الفضل في فتح قسم علوم الاعلام و الاتصال . و سأعود للحديث بالتفصيل لهذه النقطة التي لا يعلم تفاصيلها الا عددا محدودا من المسؤولين .
باني الجامعات الثاني في الشرق هو الأستاذ " بلقاسم سلاطنية " الذي نجح في تحويل مركز جامعي بائس في بسكرة الى جامعة تغطي مساحة واسعة من الاختصاصات و المدينة الجامعية التي شيدت في منطقة " الشتمة " الصحراوية تشهد على وجود إرادة للعمل و الابتكار قلما تجود بها البلاد في هذه الأيام . الزائر لا بد و أن يندهش للقدرة على التنظيم و كأنك في جامعة أوروبية . معهد تعليم اللغات المكثفة و الاصدارات تشعرك بأنك خارج المكان .
الباني الثالث هو الأستاذ " أحمد بوراس " الذي برز هو الآخر من جامعة أم البواقي . تسلم مقاليدها و هي صغيرة و في أم البواقي المحافظة . غير أن حسن التدبير و الادارة الرشيدة و التفاني حولها الى جامعة بكل المعايير خلال عشر سنوات . و قد استقطبت الكثير من الاختصاصات و تحولت الى بؤرة للتأثير في محيط تكبله التقاليد .
عكس ما هو الحال في قسنطينة التي مالت فيه الجامعات على كثرتها الى الانعزال و المزيد من المتاعب ، فحيث توجد مقرات لا يوجد طلبة و حيث يوجد طلبة لا توجد مقرات . كان ذلك التقسيم الأسوأ في تاريخ الجزائر .
و لهذا لم يكن للكثرة من معنى سوى المزيد من الضعف و الارهاق . ذلك هو حصاد قصر النظر عند بعض المسؤولين الذين كانوا وراء قرار عاطفي دفع نحو أفق غير معلوم و قطع بين قسنطينة و الريادة ما بقي من جسور .
في القادم سأتحدث عن الظروف التي أدت الى خلق قسم علوم الاعلام و الاتصال و من كان وراء ذلك بشيء من التفصيل . و سيكون ذلك بكل أمانة .
فللحديث بقية .....الى اللقاء
وجهة نظر /
أ.د / إدريس بولكعيبات
قصة فتح التكوين في الاعلام و الاتصال بجامعة منتوري ( 3 )
بعدما أعدت الارتباط بمعهد علم الاجتماع بجامعة منتوري عام 1995 ، نظم المعهد في ربيع تلك السنة ملتقى حول الاتصال في المؤسسة شاركت فيه بمداخلة حول ظاهرة " حجز المعلومات و منع تدفقها و تأثير ذلك على مسألة اتخاذ القرار " . و حضر الأستاذ " مراد بن صاري " مدير الجامعة جانبا من الفعاليات و أبدى إعجابه بما قدم من طرح . في تلك الأجواء عرض الأستاذ " سلاطنية بلقاسم " فكرة الحاجة لدعم الفرع الجديد بأساتذة لهم خبرة في الاعلام و ذلك ما تم بالفعل لاحقا ؛ كان الذين تولوا تدريس بعض المواد بالمعهد يعوزهم الاختصاص و الخبرة على حد سواء . و كما هو معروف ، النوايا مهما كانت حسنة ، لم تكن أبدا شرطا كافيا لانجاز الأشياء كما يرغبها الانسان .
واجهت هذه العملية مشكلا تقنيا ، تصدى له الأستاذ " محي الدين مختار " طيب الله ثراه و كان قد تولى رئاسة المجلس العلمي للمعهد كان ذلك عام 1996.
كنت قد مللت تولي المهام الادارية و ما سعيت اليها أبدا في حياتي . و رغم ذلك كانت تلقى على عاتقي بشكل غير منقطع منذ أن بلغت السابعة و العشرين من عمري . و كلما أردت الاستراحة كما يفعل المحاربون تقذفني الأقدار الى واجهة جديدة . لم تكن مسألة اختيار أبدا .
في الجامعة ، لم أتمكن من تغيير هذا القدر . ظننت أني سأتفرغ للتدريس و كنت مرتاحا للتخلص من عبء مللت من حمله . و هو عبء ثقيل في الجزائر التي تحكمها الشعبوية و الغوغائية و الرداءة كانت هي القوة المحركة لفعل الشر و المعطلة دائما و قد يكون ذلك أبدا .
كل شيء متعرج للغاية .
و أعلم أن الكثير من المدراء الذين عانوا معاناة شديدة في أعقاب حالة الانفلات التي أفرزتها أحداث أكتوبر ، كانوا من الأكفاء .
تلك هي حقيقة القطاع العام الذي تحول الى مستنقع آسن ، و لم يكن أبدا يحدوه الطموح للأخذ بأسباب الفعالية منذ الاستقلال .
و هكذا ، اقنعني الأستاذ " بلقاسم سلاطنية " بما كنت أخشاه و من اليوم الأول الانضمام الى الادارة و قد فعل الشيء نفسه مع الأستاذ " محمد غراس " الذي أصبح لاحقا الأمين العام لوزارة التعليم العالي .
كان ذلك خلال جلسة بمكتبه بعمارة الآداب . و قد عانى معنا في التفاوض ؛ حيث لم يكن أي منا يرغب في تولي المهمة .
كان رجلا يتمتع بقدرة على الاقناع و ترغيب الناس في العمل معه و كان يتحدث عن سقف مرتفع من الطموحات . ذلك ما جعلني شخصيا أعيد النظر فيما كنت قد عزمت عليه .
و بحكم عملي على ملفات الشؤون الدولية عندما كنت صحافيا محترفا ، كنت أعجب ببعض التصريحات لدبلوماسيين بارزين و أسعى لاسقاطها على سلوكاتي . و في هذا الشأن حضرني ما قاله "بطرس غالي " الذي شغل منصب الأمين العام للأمم المتحدة ؛ حيث سأله صحفي مرة عن سبب تغيير رأيه باعادة ترشحه مجددا لأمانة الأمم المتحدة ، فأجابه باسما و بكل برود :" الحمار وحده لا يغير رأيه".... !
للحديث بقية .....تحياتي