إشكالية الملتقى
شهد الخطاب النقدي المعاصر ثورة معرفية نسقية، هزّت جميع مسلماته الأيديولوجية، وبثت في مقارباته السياقية ظلاّ من ريب معرفي، اضطرته إلى الانفتاح على الزخم النقدي الغربي، الذي سرعان ما تبدّت آثاره في الكتابات العربية التنظيرية والتطبيقية والمترجمة
ولقد كان للنظريات السيميائية الأثرُ البالغ في الكتابات النقدية العربية، وصل إلى حدّ تماهيها بالموضة المنهجية ؛ إذ تمثلها النقاد العرب، وتفاعلوا معها، وسعوا جهدهم إلى استثمار حصائدها، وملاحقة مستجداتها، إلاّ أنّ ذلك التفاعل لم يكن ليسلم من اضطراب معرفي وقصور منهجي، تجليا في ذلك الشرخ المعرفي الذي صاحب تمثل النظريات السيميائية المتولدة في سياق ثقافي غربي تحكمه شرطيته المعرفية، وسيرورته المنهجية، اللتان تؤرخان لحركية فكرية غربية خالصة، تتجاذبها حالات الانتشاء المعرفي تارة، وحالات الانسداد المعرفي طورا آخر
فاضطراب الوعي النقدي العربي إزاء هذه الشرطية الإبستيمولوجية دفعه، في كثير من الأحيان، إلى أن يتعامل مع الجذور الفلسفية والسياقات الثقافية للنظرية السيميائية بكثير من السطحية، فانعكس ذلك في اختزال التفاعل مع هذه النظرية في تمثل مفاهيم ومصطلحات تقنية ؛ مما غلّب على السيميائيات العربية الطابع الإجرائي، فتجردت، في أذهان بعض باحثينا، من ثقلها النظري-المعرفي، فكادت تتحول إلى مجرد قوالب جامدة لا روح فيها، تقدم النص قربانا على معبد المنهج، وتتعامل معه تعاملا ميكانيكيا فظا. وإنّ هذه العلاقة العرجاء بين النظرية وتطبيقاتها أفرغت كليهما من وظيفته المعرفية ؛ ذلك أنّ السيميائيات، في حقيقة الأمر، تسعى إلى تأسيس نموذج نظري يستوعب المعطيات التي يبثها العالم الخارجي عبر اصطناع مفاهيم وتصورات نظرية خالصة، تمكّن من الولوج إلى عالم الدلالات الذي ينتج العلامة
فإذا كان كذلك، فمن المجدي معرفيا أن نقف من التجربة النقدية العربية في تفاعلها مع الزخم السيميائي الغربي أو انفعالها به وقفة تقويمية متأنية، نعنى من خلالها برصد حقيقة تمثل النقد العربي للسيميائيات، وبيان مدى قدرته على نسج خصوصياته، باعتبار السيميائيات معرفة فلسفية عامة، تستهدف فهم الظواهر المختلفة المحيطة بالإنسان، وتؤمّ تحديد آليات استيعاب الخلفيات المعرفية المثقلة بحمولات تاريخية ومعرفية ووظيفية
ولعلّ الأجدر، أيضا، أن يمكننا التقويم من إمداد التجربة السيميائية العربية وإثرائها بالأدوات والأنظار الجديدة التي تجعل الفكر السيميائي العربي مواكبا لنظيره الغربي، ومزامنا له.
فقد بات معلوما أنّ الصورة في عصرنا تربعت على عرش المخيال الإنساني، وصارت تصنع المواقف والأحداث، بفضل وسائل الإعلام والاتصال. ولهذا فإنّ قراءة صورة إشهارية أو البحث عن دلالة لوحة من لوحات سلفادور دالي بيكاسو مثلا، أو التوصل إلى فهم مقصدية سخرية الرسم الكاريكاتوري، صارت من الأمور التي تفرض نفسها لا على المتلقي فحسب، بل على المتلقي العادي؛ أي: الإنسان بعامة، لأنه المتلقي الأول للرسالة الأيقونية، والتوّاق إلى فهم تجلياتها
وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت التفات السيميائيين إلى بعد جديد وهام في تحليل العلامة؛ إذ استحوذ موضوع سيميائية العمل على كل جهودهم، وتشكل ذلك في إطار من النظرية العاملية، فإنّ الواقع يؤكد أن العمل لا ينفصل عن بعده الانفعالي. فجميع الأفعال التي يقوم بها البشر ترتبط، من غير شك، بالإحساس والشعور؛ مما حدا بالسيميائيين إلى إدراج هذا البعد في الدراسات السيميائية ، فيما اصطلح عليه بسيميائية الأهواء أو العواطف. وعلى الرغم من التراكمات المعرفية، لم يزل هذا التوجه في طور التأسيس، يبحث عن نموذج على غرار النموذج العاملي
زد على ذلك أنّ انفتاح المقولات السيميائية على أقانيم تأويلية، من شأنه أن يزجّ بالبحث في تجربة، تتساجل فيها حدود التأويل ومقاربات التفكيك وإعادة البناء